المرحلة الحالية
إن بحث ظاهرة الحجاب في المرحلة المعاصرة (منذ انهيار الدولة العثمانية إلى الآن) هو موضوع كبير وشائك، ولكن يمكننا أن نلخص دوافع هذه الظاهرة في الأمور التالية:
ظاهرة سياسية
إن الملمح الأبرز لظاهرة الحجاب في العالم العربي المعاصر هو الملمح السياسي؛ فصعود هذه الظاهرة تزامن بشكل واضح مع سقوط المشروع النهضوي الناصري في أواخر الستينات، وتنامى بعد ذلك بشكل ملحوظ وكبير.
باختصار، هذه الظاهرة هي إحدى تجليات حالة اليأس التي انتابت المنطقة العربية بعد الفورة الوطنية الكبيرة التي عاشتها خلال الخمسينات. الناس أصيبت باليأس، والسياسة أوصلت إلى حائط مسدود، وهذا ما فتح الباب لردود فعل من قبيل "الدروشة" و"العودة إلى الجذور الثقافية"؛ وهي حالة تشهدها كل المجتمعات التي تتعرض لنكسات مشابهة، ونذكر مثالا على ذلك تنامي الاهتمام بالكونفشيوسية في الصين بعد الغزو الياباني قبيل الحرب العالمية الثانية.
في بعض المجتمعات (سورية مثلا) يلعب الحجاب أيضا دورا كرمز احتجاجي ضد السلطة من قبل قطاع معين في المجتمع يشعر أنه مهمش، وهو تحديدا الطبقة الوسطى.
ظاهرة ثقافية
لا شك أن القورة الاقتصادية النفطية التي عاشتها منطقة الخليج العربي خلال القرن الماضي قد ألقت بظلالها على كل المنطقة العربية. وبما أن مجتمعات الخليج العربي تتألف بمعظمها من البدو (المعروفين بالانغلاق والتعصب الثقافي الشديدين)، والمذهب السائد فيها هو المذهب الوهابي (السلفي) المتشدد في موضوع المرأة، فإن هذا قد ساهم في نشر ظاهرة الحجاب في العالم العربي كنوع من العدوى الثقافية. والسبب الأبرز الذي سهل انتشار هذه العدوى هو حالة الركود والتراجع الثقافي الرهيبة التي تعيشها المجتمعات العربية منذ انهيار المشروع الوطني، مما ترك هذه المجتمعات بلا أي هوية ثقافية واضحة ومفتوحة للتأثير الخارجي.
كما أن انتشار الحجاب يمكن النظر إليه أيضا على أنه رمز احتجاجي من قبل بعض قطاعات المجتمع على التغلغل الكبير للثقافة الغربية في المجتمعات العربية.
ظاهرة اجتماعية
_____________
إن المجتمعات العربية قد مرت بتطورات كبيرة خلال القرن الماضي، ولا شك أن الصعود الكبير للطبقات الدنيا وانضمامها إلى الطبقات الوسطى قد ترك أثرا على تلك الطبقات. إن انتشار ظاهرة الحجاب في بلدان كسورية ومصر يعود في جزء منه إلى تضخم حجم الطبقة الوسطى التي كانت تقليديا تميل إلى أنماط ثقافية ودينية متحفظة.
ظاهرة دينية
____________
لا شك أن العامل الديني هو العامل الأضعف وراء ظاهرة الحجاب، فالأساس الديني المعاصر للحجاب ضعيف، ولا يوجد في الأدبيات الدينية المعاصرة التي تشجع على هذه الممارسة تبرير واضح لها.
بيّنا في الأعلى الارتباط الوثيق بين الخمار وبين النظام الاجتماعي القائم على العبودية، فهل من المنطقي الاستمرار في فرض الخمار في حين أن العبودية قد زالت كليا من مجتمعاتنا؟
من المستغرب إصرار بعض المعاصرين على منطق "منع الشهوة" الذي كان سائدا في العصور الماضية، لما يستتبعه ترويج هذا المنطق من إساءة بالغة للدين الإسلامي وتشويه لصورة المسلمين والمجتمعات الإسلامية. إن منطق "حجب المرأة لمنع الشهوة" يطعن في الإسلام من الأوجه التالية:
أولا: التعارض مع العلم الحديث
_______________________
إن علم الأنثروبولوجيا ودراسة الشعوب والحضارات الإنسانية قد أثبتت أن مسببات الاستثارة الجنسية هي أمور نسبية تختلف باختلاف المجتمعات. فهناك مجتمعات بدائية يعيش فيها البشر عراة أو شبه عراة، ومع هذا فإن "الفتنة" لا تقع في تلك المجتمعات. فالاستثارة الجنسية ليست مرتبطة بقدر معين من العري ولا بقدر معين من اللباس، وإنما هي مسألة تخضع بشكل كبير لثقافة المجتمع وعاداته التي درج عليها. فالبدوي الذي تعود على رؤية النساء بالنقاب ربما يثار جنسيا لرؤية امرأة بدون نقاب، ولكن وجه المرأة العاري لا يسبب استثارة جنسية لدى الرجال في معظم المجتمعات البشرية الأخرى.
وأما اللباس بشكل مطلق فهو ليس مرتبطا بعفة ولا تحرر، وإنما هو يخضع أساسا للبيئة. فالبدوية ارتدت النقاب ووضعت الخمار اتقاء لرمال الصحراء وشمسها، وكذلك فعل زوجها البدوي الذي غطى رأسه ووجهه لنفس السبب. وبعد أن اعتاد البدو هذه الألبسة ودرجوا عليها فإن ما هو أقل منها صار مثيرا للفتنة لديهم لأنهم لم يعتادوا عليه، ومتى ما اعتادوا عليه زالت الفتنة فيه.
فمقولة "الحجاب لمنع الشهوة" هي مقولة ساقطة علميا، والترويج لها طعن في الإسلام بإظهار تعارضه مع العلوم ومع ما يعرفه معظم الناس في هذا العصر كحقيقة واقعة.
ثانيا: الطعن في القرآن ومجتمع الصحابة
إن الزعم بأن الحجاب فرض لمنع الشهوة يفتح بابا لشبهات كبيرة ضد الإسلام، لأنه إذا كانت الحكمة من فرض الحجاب هي فعلا منع الشهوة كما زعم فقهاء السنة، فكيف لم يأمر الله بها الإماء؟ وكيف كان عمر بن الخطاب ينزع خمر الإماء؟ وكيف كان الرسول والصحابة يعيشون في وسط هذه الفتنة راضين قانعين؟
هل الجواب هو: لأن الإماء في عهد النبي لم يكن مثيرات للفتنة كجارياتنا الحسان؟
ثالثا: الإساءة للمرأة والتقليل من شأنها
إن القول بأن حجاب المرأة فرض لمنع الشهوة لدى الرجال فيه تشييء للمرأة ودلالة على كونها تابعا مهمشا للرجل لا كيان له ولا قيمة، وتحميل لها بمفردها لمسؤولية الشهوة وما يترتب عليها من ذنوب، وتصوير لها على أنها سبب للفتنة والمعاصي، واستخفاف بكيانها وشخصيتها. إن هذا النمط من التفكير النابع من حياة البداوة والعقلية الذكورية البحتة التي ميزت العصور القديمة لا يتفق مع عصرنا وفيه إساءة عظيمة للإسلام وتصوير له بمظهر الدين الذي يقمع المرأة ويستخف بها وينظر إليها كجسد دون اعتبار لإنسانيتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق