لا شك أن مفهوم الحجاب مفهوم شائك، وحاله كحال معظم المفاهيم الاجتماعية الأخرى في العالم العربي فإنه مفهوم يختلط فيه الدين بالعادات وحتى بالسياسة، مما يجعل التعرض له بالبحث قضية حساسة لا تخلو من تبعات نارية قد تلفح من يقدم عليها.
يمكننا أن نقسم التطور في مفهوم الحجاب إلى ثلاث مراحل:
المرحلة الإسلامية الباكرة
تمتد هذه المرحلة من بداية الإسلام وحتى فترة تبلور المذهب السني في أواخر القرن الثاني الهجري (أواخر القرن الثامن)؛ وهي تشمل ما يسميه المؤرخون بالعصر الإسلامي (يمتد من ظهور الإسلام وحتى نهاية الدولة الأموية) والعصر العباسي الأول (يمتد حتى نهاية خلافة الواثق سنة 232 هجرية / 846 ميلادية).
كما ذكرنا أعلاه فإن المفسرين ومعظم فقهاء السنة أجمعوا على أن آيتي الخمار والجلباب في القرآن هما موجهتان للحرائر دون الإماء، وهو ما يدل عليه نص الآيتين على أية حال، خاصة آية الجلباب التي تحوي عبارة: ( ذلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ).
فإذن لا يمكن القول والحال كذلك أن المراد من الخمار في القرآن هو منع الشهوة لدى الرجال كما زعم فقهاء السنة لاحقا، والقول بهذه الفرضية سيقود حتما إلى تخبط وكلام غير منطقي كالمشاهد في كلام ابن تيمية حول المسألة، فهو زعم أن الإماء في زمان الصحابة لم يكن مثيرات للفتنة كالإماء التركيات الحسان في زمانه، وهذا قول عجيب.
إن الواضح أن الخمار والتستر أريد به تمييز الحرائر عن الإماء حتى يعرفن فلا يتعرضن للأذى، وهذا ما يدل عليه نص آية الجلباب وإجماع المفسرين الذي نقله ابن تيمية نفسه.
من المهم أن ندرك هنا أن القرآن ليس هو من فرض هذا التمييز الطبقي في اللباس، فآيتا الخمار والجلباب لا تأمران النساء بالتخمر والتجلبب، وإنما هما تأمران النساء "بضرب الخمار على الجيب" وبـ "إدناء الجلباب"، أي أن الخمار والجلباب والستر كعلامات للحرائر هي أمور كانت موجودة لدى العرب أصلا، وما أمر به القرآن هو التشديد على هذه العلامات وتأكيدها حتى تعرف الحرائر فلا تؤذين كما كان يقع في زمن نزول الآية.
يقول أحمد أمين في كتاب "هارون الرشيد": القارئلكتاب الأغاني يرى أن الحجاب في ذلك العهد لم يكن له شأن يذكر، فالمرأةتقابل الرجال وتجالسهم وتسمر معهم ... بل وقد تقود الجنود للقتال كأختطريف بن الوليد...وكانت المرأة خصوصا الحرة تجيد الغزل والحياكة لكثرة قرارها، ومعهذا فقد ظلت المرأة سافرة، وإنما دخل الحجاب على النساء ... بالتدريج، فبدأ في عهد الوليد الثاني الأموي ... فأنشئت الأسوار في القصوروالحراس لضمان حماية الحرائر.ولكن المرأة على الرغم من ذلك كانت تتمتع بقسط كبير من الحرية والسفور .وكان الرجال ينتسبون إلى النساء كأبي سلمى وأبي ليلى، وكانو في الحروبيذكرون نسائهم وحبيباتهم، وكانت الفتيات المثقفات يجالسن الرجالويناقشنهم ويستقبلن الأضياف. ... ثم كثرت الجواري وكثر التهتك، فازداد الحجاب على مر الزمان حتى كثف وأصبح لا يسمح فيه إلا بعين تنظر الطريق... وكان لبس المرأة غطاء على الرأس اخترعته علية بنت المهدي أخت هارون الرشيد، له إطار من تحته قابل للترصيع بالأحجار الكريمة...وكان النساء يتحلين بالخلاخيل والأساور والأقراط والخواتيم...
من المعلوم أن العرب قبل الإسلام كانوا يعيشون حالة مزمنة من الشعور بالدونية تجاه من يحيط بهم من الأمم والممالك، وأصدق تعبير عن هذا الواقع هو مقولة عمر بن الخطاب للعرب "كنتم أذل قوم فأعزكم الله بالإسلام".
ومن المعلوم أن الصعود الساحق الذي حققه العرب على من حولهم من الأمم في فترة زمنية وجيزة أدى إلى شعور كبير بالزهو لديهم، وإلى شعور بالمرارة لدى الأمم المقهورة، وهذا الشعور بالمرارة هو الذي ولد الظاهرة القومية المعروفة في التاريخ الإسلامي باسم الشعوبية.
ومن المعروف أن الشعوبية، خاصة الشعوبية الفارسية، كانت تضيق ذرعا بالحكم العربي في العصرين الراشدي والأموي؛ فالحكم في هذه الفترة التي سبقت الثورة العباسية كان ذا صبغة عروبية شديدة، وكان العرب يهيمنون على كل مرافق الحكم والإدارة، ويشكلون الطبقة العليا "الممتازة" في المجتمع، وكان الموالي (خاصة الفرس) يكافحون لتحسين وضعهم الطبقي، وبالنسبة للموالي فإن أسرع طريقة للصعود الاجتماعي في ذلك المجتمع كانت بدخول الإسلام، وهذا ما حدث حيث أن الموالي دخلوا في الإسلام أفواجا خاصة في العصر الأموي، ودافعهم الأكبر في ذلك كان رغبتهم في تحسين أوضاعهم الاجتماعية مقابل العرب.
ولكن دخول الموالي في الإسلام لم يكن يجلب لهم المساواة مع العرب، فهذا عمر بن الخطاب مثلا يميز بين العربي والأعجمي في العطاء، ويمنع إقامة العلوج في المدينة حتى لو أسلموا. واستمر الحال على ما هو عليه في عهد عثمان، وفي عهد الأمويين من بعده.
استفاد الموالي في صعودهم الاجتماعي والسياسي من استثمار الخلافات السياسية بين العرب، وتحديدا من الخلاف بين عشائر قريش المتنافسة على الحكم؛ فها هم بنو هاشم، ممثلين بعلي بن أبي طالب، يتبنون المساواة بين العربي والأعجمي في العطاء رغبة في استمالة الموالي إلى صفهم. وقد نجح بنو هاشم في استمالة الموالي إلى صفهم بالفعل، فها هي الدعوة بالحكم لآل بيت محمد قد سرت في بلاد فارس وخراسان سريان النار في الهشيم، وانطلقت الثورة العباسية التي كانت تنادي بالحكم لآل محمد من بلاد الفرس وعلى أكتافهم.
كانت الثورة العباسية نقطة تحول هامة في مسيرة الصعود الاجتماعي للفرس، فالحكم العباسي أعطى كثيرا من النفوذ للفرس في الحكم والإدارة على حساب العرب، وها هو هارون الرشيد الذي يوصف بأنه أقوى الخلفاء العباسيين يستعين بالفرس البرامكة في إدارة كل شؤون دولته.
لكن الفرس كانوا يعون أن صعودهم الكامل إلى قدم المساواة مع العرب لا يمكن أن يتحقق طالما أن العرب يحتكرون السلطة الدينية على المسلمين. فالإمامة أو الخلافة في الدولة الإسلامية التي سبقت نشوء المذهب السني لم تكن سلطة سياسية فحسب، وإنما كانت قبل كل شيء سلطة دينية. وهكذا لا نجد من المستغرب أن الفقهاء الفرس بدؤوا يميلون في العصر العباسي إلى كسر سلطة الخليفة الدينية واستبدالها بسلطة نابعة من "سنة الرسول" أو "الحديث الشريف" تكون بيدهم هم لا بيد الخليفة، وهذه هي بداية نشوء مذهب السنة. (للمزيد حول ظروف نشوء مذهب السنة انظر هذه النبذة.)
ومع بداية العصر الذي يسميه المؤرخون بالعصر العباسي الثاني انهارت سلطة الخلافة العباسية وبرز المذهب السني كمنتصر في الصراع على التشريع الديني مع الخلفاء، ومنذ ذلك الوقت تحولت الخلافة إلى منصب شكلي، وصار التشريع الديني حكرا بأيدي طبقة علماء السنة.
من هذه المقدمة نستطيع أن نصل إلى فهم لسبب الانقلاب الجذري في مفهوم الحجاب في المذهب السني عما سبقه، فالمذهب السني يعبر أساسا عن انقلاب اجتماعي وصعود لطبقة على حساب طبقة أخرى، وبالتالي فإن فكرة التمييز في الأعراض بين الأسياد (العرب) والعبيد (وأكثرهم من الفرس) هي فكرة تنافض جوهر السعي إلى المساواة الذي كان المحرك الأساسي للمذهب السني. بكلام أوضح، إن فقهاء الفرس أنفوا أن يجعلوا عرض المرأة العربية أغلى من عرض المرأة الفارسية التي استعبدها العرب خلال الفتح الإسلامي.
بالإضافة إلى هذا العامل الجوهري، يمكننا أن نطرح أسبابا أخرى هامة أدت للتحول في مفهوم الحجاب؛ فمن المعلوم أن الفتوحات الإسلامية جلبت للعرب غنائم وثروات طائلة ما كانوا يحلمون بها قبل ذلك، وهذا الانقلاب الهائل في مستوى المعيشة والرفاه لمجتمع غالبيته من البدو المعدمين لا بد وأن كانت له تبعات متمثلة بظواهر تعبر عن البذخ، ومن أمثلة ذلك ما روي عن انتشار لبس الخواتم الثمينة و"القباطي" (وهي ثياب ضيقة تلتصق بالجسم) بين النساء، ومن ذلك قول مالك: "بلغني أن عمر بن الخطاب نهى النساء عن لبس القباطي لأنها وإن كانت لا تشف فإنها تصف." ومن المظاهر المستحدثة لدى نساء العرب أيضا كانت "الناهزة"، وهي طريقة عظمت بها النساء رؤوسهن تمثلت في لبس الخمر والمقانع على شكل عمامة توضع على الرأس تشبه أسنمة الإبل، لتوهم بغزارة شعرها وكثافته تحت الخمار والمقانع.
وهكذا فإن هذا البذخ المفاجئ في الزينة لدى نساء مجتمع محافظ كالمجتمع البدوي، وسيل "الجواري الحسان" (كما وصفهن ابن تيمية) اللواتي تدفقن على العرب مع غنائم البلاد المفتوحة، لا بد وأنه استدعى ردات فعل من الرجال اتجاه هذه "الفتن" المحدثة، ومن ذلك أتى تحذير الفقهاء من البدع في التي أحدثتها النساء في اللباس، وتحذيرهم في الروايات التي نسبوها إلى الرسول
من "الكاسيات العاريات المائلات المميلات ذوات الرؤوس كأسنمة الجمال المائلة (في إشارة إلى الناهزة التي سبق وصفها)."
ولعل لمعتقدات أهل الكتاب أيضا دور في دخول فكرة "درء الشهوة" إلى الفقه الإسلامي، فمن المعروف مثلا أن الفقه اليهودي يعتبر شعر المرأة عورة، بل وإن هذه العبارة تحديدا (שער באשה ערוה "شعر المرأة عورة"
) هي يهودية الأصل والفصل[1] ولا أثر لها في القرآن أو ما يروى عن عصر الرسول.
أخيرا، لا يجب أن ننسى أن غالبية العرب الذين قاموا بالفتوحات كانوا من البدو، والتحفظ في اللباس ولبس البراقع أمور موجودة لدى نساء البدو مما قبل الإسلام، ولا شك أن هذا قد لعب دورا في دفع المجتمعات الإسلامية نحو التحفظ والتشدد في موضوع اللباس والزينة.
يمكننا أن نقسم التطور في مفهوم الحجاب إلى ثلاث مراحل:
- المرحلة الإسلامية الباكرة (ما قبل ظهور مذهب السنة)
- مرحلة المذهب السني
- المرحلة الحالية
المرحلة الإسلامية الباكرة
تمتد هذه المرحلة من بداية الإسلام وحتى فترة تبلور المذهب السني في أواخر القرن الثاني الهجري (أواخر القرن الثامن)؛ وهي تشمل ما يسميه المؤرخون بالعصر الإسلامي (يمتد من ظهور الإسلام وحتى نهاية الدولة الأموية) والعصر العباسي الأول (يمتد حتى نهاية خلافة الواثق سنة 232 هجرية / 846 ميلادية).
كما ذكرنا أعلاه فإن المفسرين ومعظم فقهاء السنة أجمعوا على أن آيتي الخمار والجلباب في القرآن هما موجهتان للحرائر دون الإماء، وهو ما يدل عليه نص الآيتين على أية حال، خاصة آية الجلباب التي تحوي عبارة: ( ذلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ).
فإذن لا يمكن القول والحال كذلك أن المراد من الخمار في القرآن هو منع الشهوة لدى الرجال كما زعم فقهاء السنة لاحقا، والقول بهذه الفرضية سيقود حتما إلى تخبط وكلام غير منطقي كالمشاهد في كلام ابن تيمية حول المسألة، فهو زعم أن الإماء في زمان الصحابة لم يكن مثيرات للفتنة كالإماء التركيات الحسان في زمانه، وهذا قول عجيب.
إن الواضح أن الخمار والتستر أريد به تمييز الحرائر عن الإماء حتى يعرفن فلا يتعرضن للأذى، وهذا ما يدل عليه نص آية الجلباب وإجماع المفسرين الذي نقله ابن تيمية نفسه.
من المهم أن ندرك هنا أن القرآن ليس هو من فرض هذا التمييز الطبقي في اللباس، فآيتا الخمار والجلباب لا تأمران النساء بالتخمر والتجلبب، وإنما هما تأمران النساء "بضرب الخمار على الجيب" وبـ "إدناء الجلباب"، أي أن الخمار والجلباب والستر كعلامات للحرائر هي أمور كانت موجودة لدى العرب أصلا، وما أمر به القرآن هو التشديد على هذه العلامات وتأكيدها حتى تعرف الحرائر فلا تؤذين كما كان يقع في زمن نزول الآية.
يقول أحمد أمين في كتاب "هارون الرشيد": القارئلكتاب الأغاني يرى أن الحجاب في ذلك العهد لم يكن له شأن يذكر، فالمرأةتقابل الرجال وتجالسهم وتسمر معهم ... بل وقد تقود الجنود للقتال كأختطريف بن الوليد...وكانت المرأة خصوصا الحرة تجيد الغزل والحياكة لكثرة قرارها، ومعهذا فقد ظلت المرأة سافرة، وإنما دخل الحجاب على النساء ... بالتدريج، فبدأ في عهد الوليد الثاني الأموي ... فأنشئت الأسوار في القصوروالحراس لضمان حماية الحرائر.ولكن المرأة على الرغم من ذلك كانت تتمتع بقسط كبير من الحرية والسفور .وكان الرجال ينتسبون إلى النساء كأبي سلمى وأبي ليلى، وكانو في الحروبيذكرون نسائهم وحبيباتهم، وكانت الفتيات المثقفات يجالسن الرجالويناقشنهم ويستقبلن الأضياف. ... ثم كثرت الجواري وكثر التهتك، فازداد الحجاب على مر الزمان حتى كثف وأصبح لا يسمح فيه إلا بعين تنظر الطريق... وكان لبس المرأة غطاء على الرأس اخترعته علية بنت المهدي أخت هارون الرشيد، له إطار من تحته قابل للترصيع بالأحجار الكريمة...وكان النساء يتحلين بالخلاخيل والأساور والأقراط والخواتيم...
من المعلوم أن العرب قبل الإسلام كانوا يعيشون حالة مزمنة من الشعور بالدونية تجاه من يحيط بهم من الأمم والممالك، وأصدق تعبير عن هذا الواقع هو مقولة عمر بن الخطاب للعرب "كنتم أذل قوم فأعزكم الله بالإسلام".
ومن المعلوم أن الصعود الساحق الذي حققه العرب على من حولهم من الأمم في فترة زمنية وجيزة أدى إلى شعور كبير بالزهو لديهم، وإلى شعور بالمرارة لدى الأمم المقهورة، وهذا الشعور بالمرارة هو الذي ولد الظاهرة القومية المعروفة في التاريخ الإسلامي باسم الشعوبية.
ومن المعروف أن الشعوبية، خاصة الشعوبية الفارسية، كانت تضيق ذرعا بالحكم العربي في العصرين الراشدي والأموي؛ فالحكم في هذه الفترة التي سبقت الثورة العباسية كان ذا صبغة عروبية شديدة، وكان العرب يهيمنون على كل مرافق الحكم والإدارة، ويشكلون الطبقة العليا "الممتازة" في المجتمع، وكان الموالي (خاصة الفرس) يكافحون لتحسين وضعهم الطبقي، وبالنسبة للموالي فإن أسرع طريقة للصعود الاجتماعي في ذلك المجتمع كانت بدخول الإسلام، وهذا ما حدث حيث أن الموالي دخلوا في الإسلام أفواجا خاصة في العصر الأموي، ودافعهم الأكبر في ذلك كان رغبتهم في تحسين أوضاعهم الاجتماعية مقابل العرب.
ولكن دخول الموالي في الإسلام لم يكن يجلب لهم المساواة مع العرب، فهذا عمر بن الخطاب مثلا يميز بين العربي والأعجمي في العطاء، ويمنع إقامة العلوج في المدينة حتى لو أسلموا. واستمر الحال على ما هو عليه في عهد عثمان، وفي عهد الأمويين من بعده.
استفاد الموالي في صعودهم الاجتماعي والسياسي من استثمار الخلافات السياسية بين العرب، وتحديدا من الخلاف بين عشائر قريش المتنافسة على الحكم؛ فها هم بنو هاشم، ممثلين بعلي بن أبي طالب، يتبنون المساواة بين العربي والأعجمي في العطاء رغبة في استمالة الموالي إلى صفهم. وقد نجح بنو هاشم في استمالة الموالي إلى صفهم بالفعل، فها هي الدعوة بالحكم لآل بيت محمد قد سرت في بلاد فارس وخراسان سريان النار في الهشيم، وانطلقت الثورة العباسية التي كانت تنادي بالحكم لآل محمد من بلاد الفرس وعلى أكتافهم.
كانت الثورة العباسية نقطة تحول هامة في مسيرة الصعود الاجتماعي للفرس، فالحكم العباسي أعطى كثيرا من النفوذ للفرس في الحكم والإدارة على حساب العرب، وها هو هارون الرشيد الذي يوصف بأنه أقوى الخلفاء العباسيين يستعين بالفرس البرامكة في إدارة كل شؤون دولته.
لكن الفرس كانوا يعون أن صعودهم الكامل إلى قدم المساواة مع العرب لا يمكن أن يتحقق طالما أن العرب يحتكرون السلطة الدينية على المسلمين. فالإمامة أو الخلافة في الدولة الإسلامية التي سبقت نشوء المذهب السني لم تكن سلطة سياسية فحسب، وإنما كانت قبل كل شيء سلطة دينية. وهكذا لا نجد من المستغرب أن الفقهاء الفرس بدؤوا يميلون في العصر العباسي إلى كسر سلطة الخليفة الدينية واستبدالها بسلطة نابعة من "سنة الرسول" أو "الحديث الشريف" تكون بيدهم هم لا بيد الخليفة، وهذه هي بداية نشوء مذهب السنة. (للمزيد حول ظروف نشوء مذهب السنة انظر هذه النبذة.)
ومع بداية العصر الذي يسميه المؤرخون بالعصر العباسي الثاني انهارت سلطة الخلافة العباسية وبرز المذهب السني كمنتصر في الصراع على التشريع الديني مع الخلفاء، ومنذ ذلك الوقت تحولت الخلافة إلى منصب شكلي، وصار التشريع الديني حكرا بأيدي طبقة علماء السنة.
من هذه المقدمة نستطيع أن نصل إلى فهم لسبب الانقلاب الجذري في مفهوم الحجاب في المذهب السني عما سبقه، فالمذهب السني يعبر أساسا عن انقلاب اجتماعي وصعود لطبقة على حساب طبقة أخرى، وبالتالي فإن فكرة التمييز في الأعراض بين الأسياد (العرب) والعبيد (وأكثرهم من الفرس) هي فكرة تنافض جوهر السعي إلى المساواة الذي كان المحرك الأساسي للمذهب السني. بكلام أوضح، إن فقهاء الفرس أنفوا أن يجعلوا عرض المرأة العربية أغلى من عرض المرأة الفارسية التي استعبدها العرب خلال الفتح الإسلامي.
بالإضافة إلى هذا العامل الجوهري، يمكننا أن نطرح أسبابا أخرى هامة أدت للتحول في مفهوم الحجاب؛ فمن المعلوم أن الفتوحات الإسلامية جلبت للعرب غنائم وثروات طائلة ما كانوا يحلمون بها قبل ذلك، وهذا الانقلاب الهائل في مستوى المعيشة والرفاه لمجتمع غالبيته من البدو المعدمين لا بد وأن كانت له تبعات متمثلة بظواهر تعبر عن البذخ، ومن أمثلة ذلك ما روي عن انتشار لبس الخواتم الثمينة و"القباطي" (وهي ثياب ضيقة تلتصق بالجسم) بين النساء، ومن ذلك قول مالك: "بلغني أن عمر بن الخطاب نهى النساء عن لبس القباطي لأنها وإن كانت لا تشف فإنها تصف." ومن المظاهر المستحدثة لدى نساء العرب أيضا كانت "الناهزة"، وهي طريقة عظمت بها النساء رؤوسهن تمثلت في لبس الخمر والمقانع على شكل عمامة توضع على الرأس تشبه أسنمة الإبل، لتوهم بغزارة شعرها وكثافته تحت الخمار والمقانع.
وهكذا فإن هذا البذخ المفاجئ في الزينة لدى نساء مجتمع محافظ كالمجتمع البدوي، وسيل "الجواري الحسان" (كما وصفهن ابن تيمية) اللواتي تدفقن على العرب مع غنائم البلاد المفتوحة، لا بد وأنه استدعى ردات فعل من الرجال اتجاه هذه "الفتن" المحدثة، ومن ذلك أتى تحذير الفقهاء من البدع في التي أحدثتها النساء في اللباس، وتحذيرهم في الروايات التي نسبوها إلى الرسول
من "الكاسيات العاريات المائلات المميلات ذوات الرؤوس كأسنمة الجمال المائلة (في إشارة إلى الناهزة التي سبق وصفها)."
ولعل لمعتقدات أهل الكتاب أيضا دور في دخول فكرة "درء الشهوة" إلى الفقه الإسلامي، فمن المعروف مثلا أن الفقه اليهودي يعتبر شعر المرأة عورة، بل وإن هذه العبارة تحديدا (שער באשה ערוה "شعر المرأة عورة"
) هي يهودية الأصل والفصل[1] ولا أثر لها في القرآن أو ما يروى عن عصر الرسول.
أخيرا، لا يجب أن ننسى أن غالبية العرب الذين قاموا بالفتوحات كانوا من البدو، والتحفظ في اللباس ولبس البراقع أمور موجودة لدى نساء البدو مما قبل الإسلام، ولا شك أن هذا قد لعب دورا في دفع المجتمعات الإسلامية نحو التحفظ والتشدد في موضوع اللباس والزينة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق